تعبت جدا من كل ما كتبته الأسبوع الماضى، وتعبت أكثر مما عشته.
بالمناسبه أنا أكتب ما أعيشه، حاولت مرارا أن أكتب ما أقرر أن أكتبه، أو ما أعتقد أن آخرين يتوقعون منى أن أكتبه، ففشلت، فى كل مرة تخرج الكتابة كأنها موضوع تعبير كتبه تلميذ شاطر فى أولى إعدادى، مهما بذلت من جهد فى تجميع معلومات أو أفكار أو نظريات، بل إن الكتابة تزداد سوءا كلما زاد الجهد.
وانتهى بى الأمر إلى التسليم بإمكانيتى، ألا وهى أننى لا أجيد كتابة إلا ما أعيش.
وعليكم أن تستسلموا لقراءة ما أعيشه أو جزء منه. ولا تتوقعوا غيره.
ولما تعبت مما عشته وكتبته الأسبوع الماضى قررت أن أعطى لنفسى ولكم إجازة من التعب واخترت أن أكتب عن شخص واحد طوال الأيام القادمة، شخص مضمون، ارتبط اسمه عندى طوال العام الماضى بالنجاح، سأحكى لكم عن خالد على المحامى.
الذى كنت أراه من بعيد كعلامة مسجلة للنجاح. ولما سعيت لمعرفته عن قرب فوجئت بأن غير المعروف من القصة أجمل كثيرا من المعلن، وأن حياته الشخصىة استثنائية بدرجة يعتبر أمامها هذا النجاح معجزة.
سأكتب عن خالد على لآخذ هدنة من التعب والألم واليأس والفشل، هدنة من ملاحقة الأحداث مهما كانت در جة سخونتها، سأكتب عن خالد على لأثبت لكم أن شعار (نعم نستطيع) يمكن تطبيقه فى بلدنا.
أسرة فقيرة
أنا من ميت غمر بالتحديد من بلد اسمها ميت يعيش، من أسرة فقيرة أو زى ما بيقول المثقفين أسرة رقيقة الحال، والدى الله يرحمه كان بيشتغل فى خفر السواحل وعنده 8 أولاد كلهم أخدوا مؤهلات عالية، ثلاثة أولاد وخمس بنات، خمسه مننا تعلموا فى الأزهر وثلاثة فى التعليم العادى أنا واحد منهم، زى أى أسرة مرت أسرتى بأوقات صعبة، أصعب الأوقات دى لما كنت أنا فى جامعة الزقازيق (ودى أقرب جامعة لبلدنا)، كان فى بنتين فى المنصورة فى الجامعة وولد فى القاهرة، أربعة فى الجامعة فى بلاد مختلفة، صعب جدا على أى أب.
أنا باشتغل فى الإجازة من ثانوى، وطبعا فى الجامعة، اشتغلت فى مضرب أرز فى ميدان المحكمة فى مصر الجديدة، كانت شغلتى اشيل الشوال وارفعه على العربية، وفى سنة تانية اشتغلت فى مصنع كوفرتينا على ماكينة بسكويت، فى الجامعة اشتغلت قهوجى، فى قهوة داخل ملاهى سفنكس، ملاهى أطفال فيها اماكن مؤجرة من ضمنهم قهوة، اشتغلت فى المكان طول سنين الجامعة، واحيانا كنت بابات فى نفس مكان الشغب، واحيانا كنت بابات عند عمى المقيم فى القاهرة.
الدخل اللى كان بييجى لى فى الاجازة كنت باصرف منه جزء على كتبى لكن الجزء الأكبر كان لاخواتى البنات، بيروحوا الجامعة ومحتاجين مصاريف كتير فوق طاقة ابويا، والحقيقة فوق طاقة أى أب عادى.
استمريت سنة كاملة بعد التخرج فى نفس القهوة لان المحاماة فى اولها لازم يتصرف عليها، خمس سنين على الاقل بيحتاج المحامى لحد يصرف عليه، وان وقتها ماكانش عندى رفاهية ان اهلى يصرفوا على وكنت خلاص اتعودت إنى أتحمل مسؤولية اخواتى.
فى نهاية السنة اتخانقت مع صاحب العمل وحسيت بإهانة شديدة وقررت اسيب الشغل مهما كانت النتائج.
لماذا شعر خالد بالاهانة؟وكيف تأثرت حياته؟
بعد ما اتخرجت من الجامعة (تخرج خالد على من كلية الحقوق جامعة الزقازيق سنة 1994) ماقدرتش أشتغل فى مكتب محامى زى ما كنت أتمنى وكان والدى يتمنى، لأن العمل فى المحاماة ترف لا تقدر عليه الأسر الفقيرة، اشتغلت سنة كاملة قهوجى معاه ليسانس حقوق، إلى أن جاء يوم واعتقد صاحب القهوة أنى اتأخرت عن ميعاد الحضور، فبلغ الأمن أن يمنعونى من الدخول، القهوة كانت محلا مؤجرا فى مدينة ملاه، والأمن كان أمن الملاهى كلها، وأنا فى الحقيقة كنت نايم فى المخزن، اتأخرت فى الشغل الليلة اللى قبلها ونمت فى المخزن، وصحيت متأخر خرجت من المخزن فزملائى فوجئوا بوجودى وأبلغوا الأمن أنى موجود فعلا، وجاء الأمن وأثبت وجودى وانا مش فاهم أى حاجة من اللى بيحصل، ولما شرح لى زملائى الموقف، شعرت بإهانة شديدة جدا لأن الراجل اللى باشتغل معاه من سنين طلب من الأمن يمنعنى من الدخول، كان الطبيعى إنه يقابلنى ويبلغنى حتى بأنى مفصول عن العمل.
المهم.. قررت فى اللحظة دى إنى هاسيب الشغل مهما كان التمن.
رجعت بعدها البلد فى أسوأ حالة ممكنة، وأنقذنى أبويا بإصراره على إنى أنزل مكتب محام فى البلد وقال لى مايهمكش الفلوس الدنيا هتمشى، وفعلا الدنيا مشيت، اشتغلت فى مكتب محامى مشهور بدون مقابل، فقط كان بيدينى مواصلاتى لما يكون عندى قضية فى المنصورة، فكنت بوفر المواصلات وأنزل بدرى واكمل مشى عشان يفضل لى مبلغ لمصاريفى. 6 أشهر قضيتهم فى المكتب ده، ساعدنى على احتمال الوضع إنى أصلا ماعنديش احتياجات كتير، أسرتى كلها احتياجاتها المادية لا تذكر، وده اللى بيساعد الواحد على الصمود مهما كانت الظروف.
ماذا حدث بعد الأشهر الستة؟
جاء الفرج بمنتهى البساطة، عرف خالد أن مركز محاماة اسمه مركز المساعدة القانونية يحتاج إلى محامين، وكانت هذه المعلومة هى التى قلبت حياة خالد على أو «عدلتها». هكذا اعتقدت.
وسألت خالد فنفى:
قال: هو أحمد سيف، اللى هد حياتى وبناها، أنا سمعت كلام صديقى اللى عرفنى على كرم صابر مدير مركز الأرض حاليا وكان وقتها فى مركز المساعدة، شغلنى وعرفنى على أحمد سيف وقال لى إنى هاشتغل معاه فى نفس الملف «النقابات العمالية».
ماكنتش أعرف أحمد سيف، أنا كنت قاعد فى مدخل المركز ودخل واحد شكله غريب، اعتقدت أنه بيعمل الشاى والقهوة مثلا، لأنه لابس بلوفر وشبشب وشعره كبير، فوجئت به بيرد على التليفون ويتكلم بالإنجليزى، انتبهت فقدم لى نفسه وقال إنت هاتشتغل معايا.
تانى يوم أخدنى بعد مواعيد العمل على مكتبه فى شارع فيصل وقال لى ده مكتبى وده مكتب د.ليلى زوجتى والصالة والحمام مشتركين. وادّانى المفتاح، وقال لما تحتاج تيجى فى أى وقت تستخدم الكتب أو تستريح أو تشتغل لوحدك بعيد عن الزحام فى مركز المساعدة.
أكتر واحد فى حياتى عمل لى صدمات، كان أحمد سيف.
أنا كنت باشتغل فى مكتب محامى بيقفل على الكتب بمفتاح ماحدش يقدر يقرب لها، وسيف ادانى مفتاح مكتبه اللى بيحتوى على مكتبة عظيمة، وكتب نادرة بعد أربع وعشرين ساعة من أول لقاء بيننا.
بعدها بأسبوع دعانى لبيته ولقيته بنفس بساطة بيتى.
سيف عرفنى إن البشر بشر بسلوكياتهم مش بلبسهم ولا شكلهم.
سيف عرفنى يعنى إيه إنسان أصلا.. وادانى نموذج للإنسان ده.. وعرفنى يعنى إيه محامى حقيقى.
كنت فى إعدادى عضو فى جماعة الإخوان المسلمين (فاجأنى خالد على بهذه المعلومة).
فى إعدادى يعنى كان عندى ١٣ سنة مثلا، وكانت الجماعة بتدخل لنا بسلاسة، وبدون ما نشعر نلاقى نفسنا ارتبطنا بيها، وده سر قوة الجماعة الحقيقية، كنا بنلعب كرة، وننظم دورى، وبعدين يوم الجمعة نزور بعض، فنرتبط ببعض، ويبقى عندنا استعداد ننفذ أى أوامر، كنا بنروح مجموعة صبية.. أطفال تقريبا.. بنروح نزور المقابر بالليل.. دى حاجة مخيفة جدا.. لكن احنا كنا بنبقى عايزين نثبت لبعض إننا رجالة.. المهم لما نروح المقابر نقعد نبكى ونتذكر الموت ونقرأ قرآن وأدعية، فى مرة كان فى عيلة من عائلات البلد المعروفة بالبلطجة والإجرام، وكان ليهم مخبأ فى المقابر، لما حسوا بينا خرجوا علينا بالأسلحة وكشافات النور، لقوا شوية عيال لابسين جلاليب وقاعدين يعيطوا، اتقلب الموقف كوميديا وشتمونا شتيمة بذيئة وطردونا.
فى ثانوى خرجت من الجماعة، أول سبب إنى كنت باحب عبد الناصر جدا، وهم كانوا بيشتموا عبد الناصر، وتانى سبب إنى كنت باحب الشعر خصوصا نزار قبانى وطبعا ده كان غير مقبول إطلاقا.
أوقفت تدفق الحكاية لأسأل خالد.
(غريبة.. إيه اللى يعرف طفل من أسرة فقيرة عايشة فى قرية فقيرة بنزار قبانى؟).
أبويا.. صحيح كان راجل بسيط لكن كان شديد الذكاء، أولا كان بيصر أنه يشترى الجرنان كل يوم، وده مش عادى فى قريتنا.. ناس قليلة جدا اللى بتشترى الجرنان كل يوم، وكان كل ما ينزل مصر يرجع ومعاه كتب، كان بيحب الشعر والسير الذاتية، وكنت باقرأ كل الكتب اللى بيشتريها وباحاول أكتب شعر، والدى كان له روح ساخرة وفكاهية، وكان عنده قدرة غريبة على استيعاب الأمور وتقبلها، وفى نفس الوقت كان عنده طريقة تفكير نقدية ساخرة، كنت بازعل ساعات واكتئب من عدم توفر احتياجاتى الأساسية، أقولّه ليه بتخلفوا كتير ما دام مش قد الخلفة؟ كان يضحك ويقولّى بكرة يابن الكلب لما تكبر هتعرف. وكان عنده حق. لما كبرت عرفت قيمته. كتير دلوقتى باحس بالذنب لأنى ماعبرتش له أبدا عن تقديرى ليه.
حاولت أن أنتزع خالد من مشاعر الحنين لأبوه وقلت (لكن نقدر نعتبر أن قرار الخروج من الإخوان المسلمين قرار شجاع وجرىء فى السن المبكرة دى).
لأ.. مش شجاعة بس.. طبعا كان فى جزء شجاعة لكن كان فى كمان دور للغيرة، كان فى حاجة بتحصل وقتها معايا فهمتها لما كبرت، كنت أفاجأ بأن أصحابى بيعرفوا حاجات وأنا لا أعرفها، مثلا فى لقاء أو زيارة أو معسكر، كنت بازعل منهم وأحس إنهم بيستبعدونى، وده سهل على القرار جدا، لما كبرت فهمت إنى كنت باتناقش كتير وباعترض كتير، فصنفونى على أنى غير مطيع. وكان عندهم حق. أنا فعلا غير مطيع.
بعدت عن الإخوان تماما لما دخلت ثانوى، وكان فى بلدنا واحد شيوعى، كانوا بيقولوا عليه كافر، هو كان وقتها معيد فى كلية العلوم، اتعرفت عليه وهو عرف إنى باحب الشعر فادانى شرايط الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ودى كانت أول مرة أتعرف عليهم، وعرف إنى باحب عبد الناصر فجاب لى كتب عن عبد الناصر، وبعدين بدأ يتكلم معايا واحدة واحدة ينتقد عبد الناصر وكنت باقبل انتقاده، وعن طريقه انضميت للاشتراكيين الثوريين وما زلت. دخلت الجامعة سنة 90 وأنا عضو فى الاشتراكيين الثوريين، كان عددنا عشرين واحد فى الجامعة.
كنت قدرت أجمع 3 آلاف جنيه، وده كان مبلغ كبير بالنسبة لى لكن فى الحقيقة لا يكفى للزواج.
(بهذه الجملة أدخلنى خالد إلى عمق ماديات الزواج بدلا من أن أدفعه أنا إلى وصف مشاعر الحب والشوق.. جيل تانى فعلا)
يحكى خالد:
سألتها أتقدم لك وأجيب شبكة ورزقنا على الله فى الشقة، ولا نستنّى لما يبقى معانا مقدم شقة ونبقى جاهزين، قالت اتقدم ورزقنا على الله فى الشقة، أنا قدّرت إن عندها حق لأنى عندى بنات وعارف، كان وقتها جرام الدهب بـ26 جنيه جبت شبكة بألف جنيه، والدها راجل طيب جدا حبنى زى ابنه وأكتر.
بعد الخطوبة أحوالى المالية اتدهورت جدا لدرجة إنى ماقدرتش أدفع إيجار الشقة اللى كنت ساكن فيها واتفقت مع جاسر عبد الرازق اللى كان مدير المركز وقتها إنى أنام فى المكتب لمدة 6 شهور، بعد ما كنت ساكن فى شقة مفروشة مع مجموعة من زملائى، يعنى كانت فكرة إنى أقدر أشترى شقة للجواز مستحيلة، بعد فترة خطوبة كان الحل الوحيد المطروح علينا إننا نبنى فى بيت حمايا، هو راجل بسيط عنده بيت بسيط فى بشتيل وعنده أربع بنات وولد واحد، أنا حسيت إنى الولد التانى فى الأسرة دى، لكن برضه كنت قلقلان إزاى يعنى اسكن فى بيت أهل مراتى، أنا طبعا اللى هابنى لكن فى النهايه هو بيتهم، وبرضه أحمد سيف هو اللى أقنعنى بأن ده تفكير متخلف ومايصحش أفكر كده، قلته له أنا أكتر حاجة قلقانى لما نتخانق وتسيب البيت هتروح عند أهلها فى نفس البيت، قالى سيف يا أخى إبقى سيب البيت إنت وتعال نام فى المركز ما انت متعوّد على كده.
واحنا شغلنا كتير وممكن نسهر ونسافر وهى قاعدة فى وسط أهلها هتبقى مطمن عليها.
وشجعنى أكتر إن حماتى كانت طيبة جدا ومريضة وعايزة بنتها جنبها، المهم أنا لسهعايش فى نفس البيت ده من 2002 سنة جوازى.
وعندى عمر، 8 سنين، وأمينة، 5 سنين.
كان نفسنا ندخلهم مدرسة كويسة واخترنا فعلا مدرسة فى الزمالك رفضت تقبلهم، لأن عنوان بطاقاتنا الشخصية بشتيل، واكتشفنا إن عنوان البطاقة ده مشكلة عند المدارس، وكمان عند البنوك أنا كنت عايز آخد قرض من البنك فرفضوا لنفس السبب، واحد صاحبى عنده شقة فى مدينة نصر بيأجرها كتب لى عقد ورحت غيرت عنوان البطاقات على مدينة نصر عشان أقدر أدخل الأولاد المدرسة، بس ماقدرتش برضه، دخلتهم مدرسة خاصة فى بشتيل، خاصة برضه ولغات، بس فى الفصل أربعين تلميذ.
مراتى بتشتغل فى «النديم» من سنة ألفين. والحياة ماشية على كده.
أنا كنت مدير «هشام مبارك» وانفصلت عنهم فى 2009 وعملت المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ولسه ساكن فى بشتيل وما املكش عربية.
لكن المركز ده فى خلال فترة قصيرة جدا أثبت وجوده، فى شهر 12 – 2009 أخدنا حكم بإنهاء الحراسة القضائية على نقابة المهندسين وفى 31-3-2010 أخدنا حكم الحد الأدنى للأجور. وفى أول مايو 2010 أخدنا أول حكم قضائى يحظر على الحكومة المصرية ترحيل اللاجئين، استنادا للاتفاقيات الدولية كان معانا جاسر عبد الرازق و«مؤسسة أميرة لشؤون اللاجئين» وفى سنة 2010 أخدنا أول حكم بالحبس على رجل أعمال، لأنه أهدر حقوق العمال أول مرة قضية حقوق عمال تبقى قضية جنائية، وقضية أصحاب التأمينات والمعاشات اللى انضمت لقضية أحمد حسن البرعى لحماية أموال التأمينات، ونجحنا ناخد تصريح إن قرار بطرس غالى مخالف للدستور واتْرافعنا مع بعض ورحنا المحكمة الدستورية (بطرس غالى أهدر استقلالية موازنة التأمينات وجعلها جزءا من الموازنة العامة للدولة).. وبعده «مدينتى» و«بالم هيلز» و«عمر أفندى» واسترداد القطاع العام..
وكان هذا بعضًا من خالد على.. قبل الثورة وبعد الثورة.