Saturday, February 03, 2007

قتلة وأبرياء فــــي سجـــــن النـساء



عندما بدأت الكتابة عن عنبر «6» في سجن النساء، زارتني طوال الليل صور ووجوه من عالم السجن.. زارتني نظرات نساء العنبر عند الدخول وعند الوداع.. أيامي في سجن النساء كانت يمكن أن تمر كالصفحات البيضاء، دون أي انفعالات أو مواقف أحفظها في ذاكرتي، لو لم التق بنساء عنبر «6».

هناك عرفت كيف يمكن أن تتحول الكلمات إلي أحزان، فيظهر الفقر في صورة إنسان، ويرسم الظلم خطوطه علي الوجوه. كانت دهشتي كبيرة حينما اكتشفت أن نساء عنبر «6» مازالت لديهن بكارة الروح وطهارة النفس، فجميعهن يعرفن حقيقة الآخر، ويتعاملن بوضوح ومكاشفة.. فهناك لا وقت للخداع لأن العمر الذي يقضينه في سجن القناطر هو عمر ضائع لا يحتسب إلا في دفاتر الحكومة، رغم أن عنبر «6» هو المخصص لجرائم النفس، إلا أن نساء العنبر أطلقت عليه اسم عنبر «القتلة» وهن يتمتعن في أعراف السجن باحترام أكثر من أي فئة أخري، وحتي إدارة السجن نفسها تعتبره من أقل العنابر شغباً وإثارة للمشاكل، وهو ما جعلني أصدق أنني أمام ضحايا وليس مجرد قتلة، فالزائر الجديد لسجن القناطر قد يشعر بالرعب إذ عرف أنه سيقيم في عنبر «القتلة».



لم يكن عنبر «6» بالنسبة لي مجرد جدران عتيقة وممر طويل يفصل بين «السراير» ينتهي بمرحاض كبير، فالعنبر تحول بالنسبة لي إلي مدينة صغيرة تتكون من أحياء وبنايات متعددة الطوابق وشوارع مزدحمة بضجيج لا ينتهي.. داخل العنبر هناك ساعات للذروة يكون فيها العنبر مزدحماً، وتواجه السجينات أزمة مرورية ضخمة خاصة في المرحاض والطرق المؤدية إليه، وهناك حالات يكون فيها العنبر شبه خال إلا من «السراير» والوسائد المرتبة بعناية منذ الصباح الباكر.
وهناك أوقات يبدو فيها العنبر مثل جمرة نار، فالأفواه المفتوحة لا تهدأ، والكلمات المتراشقة ينتظر الجميع أن تسقط عليها الأمطار لتطفئ لهيبها.



قبل أن تدخل بوابة العنبر رقم «6» تجد علي يمينك ممرا صغيرا يصلح لمرور فرد واحد علي الأكثر يقود إلي غرفة صغيرة مساحتها 16 مترا مربعاً، تحتوي علي 18 سريراً فقط بينما يفوق السجناء عدد السراير، ومن هذه الغرفة تدخل إلي غرفة أصغر مساحتها أربعة أمتار وتعيش فيها ست سجينات حياة كاملة.. وهي الغرفة التي قضيت فيها أيامي كلها في سجن القناطر.
في أحد الأيام زارنا رئيس مصلحة السجون في الغرفة، وسألنا عن أحوالنا وكيف نعيش في هذه الغرفة، ولم نجب عليه ففوجئنا بسيادته يقول بالحرف الواحد «دي عيشة ولا اللي في القصور».. أصابنا كلام رئيس مصلحة السجون بالصدمة، فهو يري في عشش الصفيح التي تعيش فيها نساء القناطر قصوراً.



يبدو ليل مدينة «القتلة» مليئاً بالغموض والحزن، تنبعث من كل زاوية في المدينة مجموعة روائح متداخلة، لكن كيف تمر الأيام داخل مدينة «القتلة»؟! تبدو كل الأيام متشابهة، وتمر كشريط يتم تشغيله من الساعة السابعة صباحاً حتي الواحدة من صباح اليوم التالي، يبدأ اليوم داخل السجن منذ الساعة السابعة صباحاً، بحركة وفوضي كبيرة تجعل العنبر يبدو كأنه في ذروة منتصف النهار، ففي هذا الموعد تقوم بعض السجينات بتجميع أدوات الغسيل مثل الصابون والكلور والأطباق الكبيرة، استعداداً لفتح الباب العمومي للعنابر، فقطاع كبير من السجينات يعملن كـ«غسالات» لباقي السجينات مقابل عدد من «خراطيش» السجائر، وتلتزم الزبونة بغسل عدد معين من الملابس، وبعدها تظهر أكثر المشكلات إثارة في هذا المجال وهو فقدان بعض قطع الغسيل أثناء نشرها فوق مبني المغسلة، فلكل «غسالة» مكان محدد في حجرة الغسيل تعمل فيه طوال الفترة الصباحية، وتقسم السجينات سطح غرفة الغسيل بينهن بالتساوي ولا يمكن لسجينة أن تعتدي علي حبال غيرها، لكن يمكن أن تستأذن غسالة مبتدئة في نشر غسيل زبائنها علي حبال غيرها.
في عنبر «6» الهدوء عمره قصير فبعد خروج طائفة «الغسالات» بدقائق قليلة يحين موعد طائفة الطباخات ففي التاسعة صباحاً تدخل سجن النساء سيارات «كارو» تحمل أطعمة السجينات وبعضها يكون جاهزا وبعضها يتم توزيعه دون إعداد، ويجري ذلك في مطبخ السجن الذي تغير شكله عما كان يظهر في الأفلام والمسلسلات التي تدور في سجن النساء، ولم يعد له وجود، فساحة السجن ضاقت إلي الحد الذي جعل الإدارة تحول المطبخ إلي عنبر تعيش فيه السجينات.. وداخل السجن توجد لوائح دقيقة لتنظيم العمل بين السجينات وهذه اللوائح يطلق عليها اسم «السيرك»، فأي سجينة تريد أن تعمل لابد أن تسجل اسمها أولاً لدي الإدارة حتي تنضم إلي زميلاتها.
في عنبر «القتلة» وجدت مشاعر تحيط بي من كل جانب لم أرها خارج السجن، كنت أتعجب كيف استطاعت هؤلاء السيدات اللاتي أحطن بي بمشاعر أمومية ضافية أن يقتلن؟.. نغص علي هذا التساؤل ليالي طويلة داخل السجن.. لذلك قررت أن أقدم صور لبعض نساء عنبر «القتلة».



(1) بشري:
كان حضورها طاغياً وسط هذه الكومة البشرية التي تسكن عنبر «6» فجلستها مثل ملامحها لا تتغير إلا في حالات نادرة.. ظلت لمدة 12 عاما في سجن القناطر، ولاتزال في انتظارها ثلاث سنوات أخري، لم تقدم نفسها إلينا كما فعلت باقي السجينات لكننا ذهبنا لنتودد لها حتي نتعرف علي الكيان الغامض الذي يفيض بالكبرياء وعزة النفس.
تحب بشري الليل، استطاعت أن تنقش في كل قلوب سجينات عنبر «6» والعنابر المجاورة حبا من نوع خاص فقد ظلت تغزل الصبر في قلوب الجميع، ولم تندم لحظة واحدة علي ما قامت به في حياتها، ولم تندم علي قتل زوجها، فهي تمتلك قناعة مثل الصخر بأنها قدمت نفسها وعمرها المنقضي في سجن القناطر كهدية لابنائها عندما قتلت هذا الأب، ظلت بشري تعمل منذ طفولتها حتي تزوجت، لكن حظها السيئ ربطها بزوج عاطل انجبت منه ثلاثة أبناء كانت هي تخرج للعمل ويبقي هو داخل المنزل، كانت هي تزرع وكان هو يجرف ما تزرعه، ظلت بشري تصرف علي أولادها وزوجها الذي يتعاطي المخدرات، حتي جاءت لحظة النهاية عندما فوجئت بزوجها يعرض أحد أبنائه للبيع لسيدة لم تنجب ليصرف علي المخدرات.. عندها لم تعد بشري تتحمل أكثر، قتلت زوجها ودفنته سراً تحت دورة مياه المنزل بمساعدة شقيقها، الذي حاول ابتزازها ومص دماء أولادها وعندما رفضت ابتزازه أبلغ عنها، وفاجأت بشري الجميع باعترافها التفصيلي بالجريمة، في أول الأمر تعرفت علي بشري رأيت صورة قديمة للسيدة العذراء مريم وسط أشيائها، وكانت المفاجأة بالنسبة لي عندما سمعت صوتها يعلو بالتكبير في صلاة الفجر، تحيرت في أمرها عدة أيام، وعندما أصبحنا أصدقاء سألتها عن صورة العذراء مريم فقالت لي «أنا أحبها وأحب هذه الصورة بشكل خاص»، فقلت لها «وأنا أيضاً أحب العذراء وأحب اسم مريم كثيراً»، فقالت لي مازحة «لن أفرط في هذه الصورة ولن أعطيها لكي»!
يعرف عنبر «6» كله أن بشري لا تأكل إلا من يدها، ومنذ أن دخلت السجن وهي تصرف علي نفسها من عملها، وعندما كانت مريضة رفضت أن تأخذ دواء لم تشتره من نقودها!
أتذكر عيون بشري الوديعة وهي تقدم لنا طعامها بخجل كريم، وكانت تقول لنا إنها لو طالت أن تقدم لنا أغلي طعام في الكون لن تتأخر لكن الايد قصيرة.



(2) نعمة نفادي:
تمتلك «نعمة» ملامح طفولية تجبرك علي أن تداعبها حين تراها وملامح أمومة طيبة تدعو لك باستمرار بهدوء القلب وراحة البال، هذه السيدة الصعيدية القادمة من أسيوط إلي حي العمرانية في محافظة الجيزة دخلت سجن القناطر ولا تبالي بذلك فهي تتعامل مع هذا العالم الجديد بأدائها الخاص، وتعبر بأسلوبها البسيط عن أعقد القضايا، ولا يخلو مجلس نعمة نفادي أو «أم أحمد» كما تحب أن يناديها سكان العنبر من وصلات ضحك متتالية فهي تمتلك قلب أسد وروح قطة.
قالت لي إنها شعرت بوجع في قلبها عندما رأتني مع اسماء ننام في سرير ضيق، ولا نستطيع التقلب فيه، وبعد أن لاحظ علينا «سكان العنبر» أننا نكمل نومنا في النهار، اقترحت علينا أم أحمد أن نأخذ سرير ابنتها بالتبني «حنان»، بحيث تنام حنان بجانبها وأنام في السرير وحدي.
كانت «أم أحمد» تكره الصحافة والصحفيين بصورة مرعبة، فهي تحتفظ في ذاكرتها بالمانشيت الذي كتبته عنها إحدي الصحف وكان يقول «مرات الجزار شربت من دم الجار»، ولأن «أم أحمد» صعيدية لم تغيرها طقوس المدينة، وظلت تنطق حرف «الدال» بدلاً من «الجيم».
تورطت عائلة نعمة نفادي في قضية ثأر قديمة، قتل فيها شقيقها في ليلة زفافه، كما يحدث في الأفلام، وغادر القاتل أسيوط إلي الجيزة وهناك تربص به أهل نعمة وقتلوه، وذكر أحد الشهود في محضر الشرطة وجود سيدة في مسرح الأحداث، وتم توجيه الاتهام إلي والدة «نعمة» بالاشتراك في القتل، ولأن والدتها كانت في سن متأخرة لا تستطيع تحمل قسوة السجن دخلت نعمة السجن بدلاً منها لتقضي عشر سنوات.
كانت نعمة نفادي تبدو لي في السجن مثل شخص جاء إلي هذا المكان بالصدفة، فلعبت دور أمي طوال الوقت وكنت أشعر تجاهها بأحاسيس أمومة حقيقية، ربما لأنها تشبه أمي كثيرا، ولا يمكن أن أنسي الدور الذي لعبته عندما وصلنا خبر الإفراج، فكلما نظرت إليّ وجدتني شاردة، كانت تضغط علي رأسي بحنان وتقول لي: «بكره تخرجي»، ووعدتني أم أحمد بأن تزورني أو تتصل بي فور خروجها من السجن في أكتوبر الماضي، لكنها لم تفعل ذلك حتي الآن، وهذا لا يمنع أنني انتظرها.



(3) هويدا:
تطلق عليها السجينات اسم «هوجان» نظراً لضخامة جسمها، واستعدادها الدائم لتنفيذ المهمات الصعبة التي تواجه العنبر.. وتقوم «هوجان» بطيب خاطر وشقاوة ولاد البلد بتنفيذ ما يوكل إليها من أعمال، وتشعر «هوجان» بسعادة كبيرة، عندما تلقي تأييداً واسعاً من سجينات العنبر وعندما يعتمدن عليها، وهي تتمتع بجميع ملامح الشخصية المصرية الخالصة، مثل «الجدعنة» و«الفهلوة» والشطارة في كسب قوت يومها، وتقاوم «هوجان» الهموم بالضحك والسخرية وتطلق تعبيرات نارية علي ما يعانيه سجن القناطر، وأذكر أنها ألفت رباعية تختصر بها الأوضاع: «توب علينا يا تواب، من مستشفي الكلاب، شقة ناشفة وفول هباب، والسجانة وقفل الباب».
وبعيداً عن حروب هوجان اليومية في عنبر «6» فإن حكايتها كانت أكثر إثارة مما تقوم به داخل العنبر، فالقضية التي قضت علي ذمتها ثلاث سنوات من حياتها داخل السجن، تصلح أن تكون قصة فيلم مثير، تعترف «هوجان» بزهو أنها قتلت أمين شرطة وضابط مباحث للدفاع عن شرفها، وقالت إنها قتلت أمين الشرطة والضابط برصاص ميري - أي علي نفقة وزارة الداخلية - عندما تعرضا لها أثناء عملها في محل الجزارة لم تجد أمامها سوي الساطور للتخلص من تهديدات ضابط المباحث الدائمة الذي حاول الانتقام منها بعدما قتلت أمين الشرطة الذي كان علي صلة قرابة بالضابط، حاول ضابط المباحث الايقاع بـ«هوجان» خاصة بعدما قدم شقيق زوجها نفسه بدلاً منها في قضية مقتل أمين الشرطة الذي حاول الاعتداء عليها.
لم تنس «هويدا» أو «هوجان» أبناءها لحظة واحدة فهي تحلف بهم دائماً في أوقات المحنة، ولم تنس «عبدالله» شقيق زوجها الذي يقضي في السجن عقوبة كان عليها أن تقضيها هي. تحكي «هوجان» عن «عبدالله» بنبرة أخري غير التي تتحدث بها طوال النهار في العنبر، تتحدث وتنظر إلي السماء طالبة أن تجمعهما «الحرية»، لم يرسل عبدالله لهويدا سوي خطاب واحد فقط، مليء بالمشاعر الدافئة، وكانت تطلب منا دائماً أن نقرأ عليها الجواب كلما ضاقت بها الدنيا.



(4) حنان:
احتفلت بعامها التاسع عشر في سجن القناطر بعد رحلة طويلة في «الأحداث»، ومنذ أن دخلت حنان سجن النساء، لم تكل لحظة من العمل والحركة، تحتفظ ملامحها بطفولة حزينة انكسرت علي أعتاب «الإصلاحية» وسجن القناطر، وتؤدي دورها في الحياة كأم في نفس الوقت.. دخلت حنان الإصلاحية بعد الحكم عليها بالحبس لمدة عشر سنوات، لم تكن قد أكملت الخمسة عشر عاماً من عمرها، تتشابه قصة حنان مع عشرات القصص التي يقدمها التليفزيون بركاكة، لكني لم أتصور لحظة أن هذه الفتاة استطاعت أن تبدأ حياتها بالقتل، فما قامت به الفتاة كان قتل خطأ سببه الأساسي عدم تصور الطفلة أن الآلة التي تحملها في يدها لتدافع عن نفسها يمكن أن تقتل وتنهي حياة إنسان!
تنتظر حنان الإفراج لكي تكمل «نعمة نفادي» مشوارها الذي بدأته مع الطفلة منذ أن دخلت سجن القناطر، وعدت نعمة حنان بأنها لن تخرج من الجحيم إلي الجحيم، وقالت لها إنهما سيعيشان سوياً في منزل نعمة ومع أبنائها، ووعدتها نعمة بأن تزوجها مثلما تفعل مع بناتها.



(5) إيمان:
دخولنا إلي حياة «إيمان» أشعرها بضرورة التمرد علي الاستغلال الذي عاشت فيه لمدة ثلاث سنوات، فقررت أن تصبح نفسها.. ولايزال أمامها 12 سنة في سجن القناطر.
منذ البداية قبلت إيمان أن تنام علي الأرض في مساحة تكفي لنوم طفل لا يتجاوز عشر سنوات، فعلت ذلك باستمتاع ورضا حتي أنام مع أسماء علي «سريرها» الصغير، كانت تغضب بشدة، عندما كنت أصمم علي غسل ملابسي بنفسي أو مساعدتها في إعداد الطعام.. انتظرت كثيرا أن نسألها عن أسباب الحكم عليها بالسجن المؤبد رغم أنها لاتزال في العقد الثالث من عمرها، واذهلتنا حين قالت إن سبب حبسها هو إصابة بسيطة فوق حاجب سيدة أثناء مشاجرة عادية، ونظراً لعلاقات هذه السيدة في قسم الشرطة، تم تقييد الحادثة بأنها «شروع في قتل».
تركت «إيمان» والدتها تبكي علي عمر ابنتها الضائع دون فستان للزفاف أو شهادة متوسطة، وتستقطع والدة إيمان من خبزها اليومي لتجهز زيارة كبيرة لابنتها تكفيها لمدة شهر أو عدة أسابيع، بعد أن علمت أن أحوال السجن تشبه أيام «الضنك».



(6) حياة:
تبحث «حياة» دائماً عن معني للحياة من خلال اللعب والتنكيت والمشاهدة المستمرة للتليفزيون، وهي تتواصل مع أفراد عنبر «6» بنفس الطريقة التي كانت تتواصل بها مع جيرانها في بولاق الدكرور، تنطق «حياة» بعبارات خاصة بها، فيمكن أن تستبدل حروف من بعض الكلمات وتضع غيرها، ولا تقبل أن يصلح لها أحد مخارج ألفاظها فهي راضية بذلك، طالما يفهمها الجميع.. وحياة هي ابنة بشري بالتبني، ويمكن أن نقول إنها ورثت كل طباع بشري من عزة النفس والكبرياء وهي تحب أمها بشري حباً شديداً، ولا تقبل أن تسيء إلي كرامتها، فأذكر أن خلافا كبيرا نشب بين بشري وحياة وفي ليلة مرض بشري جلست حياة بجانبها طوال الليل تبكي وتجفف لها عرقها، لم أشاهد في حياتي منظراً بهذه العذوبة، أبكت حياة كل سجينات الغرفة من رقة المشاعر المتدفقة من ابنة إلي أم لم تلدها، تقضي «حياة» عقوبة القتل الخطأ بعد مشاجرة عادية كالتي تحدث في شوارع القاهرة وتنتظر الإفراج قريبا» أن تحتفل بعده بعامها الخامس والعشرين!



(7) هنية:
تعرضت هنية لأشرس أنواع التعذيب حتي تعترف بجريمة قتل لم تقم بها من الأساس، وفقاً لتأكيد الطبيب الشرعي، بأن آثار كوب اللبن الموجود في غرفة القتيلة كان لرجل وليس فتاة، فهنية التي رفضت أن يمس جسدها محترفو التعذيب، خوفاً من الصدمة التي ستقع علي أهلها بعد معرفة ما حدث، قالت لهم اعترف بما تريدون ووقعت علي أقوال لم تدل بها.
وتواجه هنية السجن بضحكة واسعة، فهي تدرك أن ما فات من عمرها داخل السجن، أكبر مما هو باق، قرر الزمن أن ينهب منها 18 سنة داخل أسوار القناطر، دون سبب سوي أنها كانت صديقة للقتيلة.
(8) شادية:
توفي زوج شادية نتيجة صعقة كهربائية أثناء إصلاح كابل النور في شقته، وظل زوجها في مستشفي قصر العيني لمدة أربعة أيام قبل أن يتوفي، اعتقد ضابط في قسم العمرانية أن شادية دبرت جريمة للخلاص من الرجل الذي لم يكن يملك شيئاً في الدنيا!! فاتهمها الضابط بقتل الزوج، وظل يعذبها حتي تعترف بالجريمة، لكنها أصرت علي الرفض وعندما هددها ضابط القسم بأن يحضر أكبر أبنائها الرجال ليري أمه وهي تنتهك أمامه، فوافقت شادية علي الاعتراف بما يريده الضابط، وصدر ضدها حكم بالحبس لمدة 20 سنة، وبعد خمس سنوات داخل السجن، جاء خبر موت ابنها في حادثة سيارة! عندما تلقت الخبر قالت: «ماذا يبقي للإنسان بعد ذلك كي يعيش».



(9) سامية:
يتبقي لسامية شهور معدودة لتخرج من القناطر لكنها لا تعرف أين تذهب بعدها.. فلم يعد أحد يتذكرها، أو يريد أن يتذكرها، فأولادها امتنعوا عن زيارتها منذ سنوات طويلة تجعلها لا تذكر إلا وجوههم في آخر زيارة، وتحاول دائماً أن تتخيل التغييرات الجوهرية التي طرأت علي ملامحهم بفعل الزمن والقسوة.
يمكننا أن نسمي سامية «منشدة» عنبر «6» فهي المسئولة الأولي عن إحياء حفلات الإفراج والمناسبات السعيدة التي تكسر حدة السجن وهي تمتلك صوتاً ناعماً، كما أنها تحفظ عددا كبيرا من الأغاني التي تؤديها بطريقتها الخاصة ومن أكثر الأغاني التي برعت سامية في أدائها أغاني فردوس عبدالحميد في المسلسل الشهير «ليلة القبض علي فاطمة»، وعندما تغني سامية «بتغني لمين ولمين يا حمام، يدخل العنبر كله في وصلة طرب من نوع خاص، ولا يمكن أن أنسي تحفة «سامية» الخاصة التي لم اسمع مثلها في حياتي وهي أغنية «الله يا ليل»، بالإضافة إلي صوتها الشجي، فسامية تمتلك وجهاً يحتفظ بابتسامة حرة وطليقة يزداد انتعاشاً عندما تداعبني مرددة الشعارات والهتافات التي ظللنا طوال فترة السجن نرددها، فكان الهتاف المحبب لسامية هو جزءًا من أغنية الشاعر أحمد فؤاد نجم التي تبدأ ب«الجدع جدع والجبان جبان».



(10) سامية «كيرلوس»:
لايزال أمامها سنوات طويلة علي الإفراج تنتظر بعدها رؤية طفلتها ذات الأعوام الأربعة بفارغ الصبر وتمثل سامية حالة صارخة علي صعوبة قوانين الزواج بين أقباط مصر، فقد اضطرتها ظروف الحياة إلي الزواج من شخص لا تحبه، وعانت سامية مع زوجها كثيراً، ورغم ذلك كان دائم الاستهتار بها للحد الذي جعله يستضيف واحدة من الساقطات في منزله وأمام عينها، عندها لم تحتمل سامية ذلك وقررت أن تجد حلاً لمأساتها، وفي إحدي الخناقات بينهما أمسكت سامية آلة حادة وضربت بها الزوج ليسقط غارقاً في دمائه.. يزورها والدها كل فترة ويحمل إليها ابنتها الصغيرة ويكرر جملته المعتادة في كل زيارة «سامحيني يا بنتي أنا السبب في اللي انتي فيه».



(11) نشوي وأمها:
هذه الحكاية من قلب الصعيد القاسي، وكما يطلق عليه «الصعيد اللي واكل ناسه»، تقضي كل من أم نشوي وابنتها عقوبة بسبب قتل طفل رضيع، هو ابن نشوي!
أحبت نشوي شابا في مثل عمرها وتورطت معه في علاقة، كانت إحدي نتائجها مولودا صغيرا في أحشائها وفشلت في التخلص منه حتي كبر بداخلها، انجبت نشوي، وتحت وطأة ظروف وقوانين الصعيد اشتركت نشوي مع والدتها في قتل الطفل وعندما وصلت الأخبار للشرطة تم تقديمها للمحاكمة وصدر ضدها حكم بالسجن المؤبد وضد والدتها بالحبس عشر سنوات.. هذه ليست نهاية المأساة، فالعائلة تنتظر خروج نشوي من السجن حتي يغسلوا عارهم» بقتلها! تعيش نشوي وأمها في السجن، والابنة تخرج كل صباح لكسب قوتها وقوت أمها، وتعود إليها في نهاية اليوم بقليل من الأرز أو قطعة من اللحم!



(11) صفاء:
أطلقنا عليها اسم «فاتنة» عنبر «6» وأحياناً «المرأة الجرس» فهي تحرص علي الاهتمام بمظهرها، رغم انشغالها الدائم بإدارة شئون العنبر، تعيش «فاتنة» العنبر حياة حالمة حالياً بعد أن كررت أحداث فيلم «الحب في الزنزانة» وتعرفت علي أحد السجناء بالصدفة أثناء دخوله سجن النساء لإصلاح بعض التلفيات، وتبادلا سوياً الرسائل والصور واتفقا علي الزواج، وكان من المفترض أن يعقدا زفافهما منذ أسابيع قليلة وظل العنبر يهنئ صفاء علي الزواج في حفلة اقيمت لهذا الغرض، رغم إنه لايزال أمامها سنوات عديدة قبل الخروج من السجن، لكن الزوج وعدها بأن ينتظرها حتي تخرج.
رشا عزب
نشرت هذه المقالة في جريدة الفجر - العدد الصادر في 29/1/2007

10 comments:

Anonymous said...

أنا أحسدك
أنا احسدك
أنا
أ
ح
س
د
ك

MAKSOFA said...

بين عنبر 6 وعنبر القتل استطعت ان تنقلينا ببراعه الصحفيه المحترفه الي أجواء السجن والسجينات
الا انني اعيب عليك نشر القصص كلها في بوست واحد وكان يمكنك نشرها علي أجزاء فيمكن أن قرأ هذا التحقيق كاملا متكاملا في مجله او جريده الا أنني اجد انه من الأفضل ان يكون البوست في المدونه مختلفا من حيث الأختصار حتي يسهل قراءته

Anonymous said...

أنا أحسدك
أنا أحسدك
أنا
أ
ح
س
د
ك

Anonymous said...

السلام عليكم
رشا عزب ...لعل من يقرأ ماتكتبى يظن انها مسلسل اجتماعى من مسلسلات اسامه انور عكاشه ...
ويدور معها فى طيتها ...باحثا عن النهايه...ولكن الحقيقه ان النهايه ليست فى حلقات المسلسل بل فى حلقات الواقع وفقط وحصريا لدى رشا عزب ...
(اذا ماظن حكامنا انهم بقمعنا قى السجون وبكبت حريتنا سيخرسون افواهنا.. فيجب ان يحصلوا من جديد على دروس خصوصيه فى التاريخ )
وشكرا
ابوجلال المصرى
glaal25.blogspot.com

Anonymous said...

دنيا السجن هى هى دنيا الواقع
لكن فى الواقع
القاتل يظل طليق
وفى المقابل
البرىء يدخل السجن


عالم ماشى بالمقلوب

تحياتى على الأسلوب الشيق فى السرد
حسستينى انى من سكان العنبر من زمان
وانى قاعدة فى السرير اللى فوق منك

amgadpasha said...

one of the best thing i read in a while..

Anonymous said...

وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء
هذا عقاب الله الجبار العدل المنتقم للظلمين...و حتي تشفي قلوب مؤمنين من الظالمين اسمعي قول الله تعالي
َأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ
اعرف ان للظلم وجه قبيح بل اصبح علي ارضنا بغيض فاجر و لاكن ليس لنا الا ان نشكوي ربنا لله الامر من قبل و من بعد انها الدنيا فلتركه لهم و ليفعلوا بنا ما شاءون و لنا ربنا و لنا يوم لا يظلم فيه ربك احد...اعجز عن التعبير الكلام رائع.. ولاكن احتسبي كلامك و مجهودك لله و الله لن يضيع اجر من احسن عملا

ذو النون المصري said...

فعلا اسوا شيء ان الانسان يسجن مظلوما و اسوا منها هي حالته النفسيه اثناء العقوبه و بعدها لما يخرج من السجن

Unknown said...

سلام عليكم
انا دخلت
ودى اول مرة ليا
عاوز اقولك انك عبقرية
فعلا واللة عبقرية
من غير اى مبالغة منى
رسمتى الصورة ولا اجدع رسام
وبعتى رسالة جميلة
لنا
رسالة صحيح كلها حزن والالام
بس فيها تجارب ما اظنش انى ممكن الاقيها
بسهولة
عشان كدة
انا بشكرك جدا جدا

منتديات said...

Thanks for your

منتديات

زفات العروس

دردشة

شات

شات صوتي

مواضيع اسلامية

مواضيع عامة

Department of English Language

مكتبة مجنونات

أخبار الحوادث و الجرائم - اثارة

الترحيب و التعارف

همس القصيد

الخواطر وابداع الاقلام

Stories - قصص - قصص قصيره و الألغاز

الحياة الزوجية

عالم الرجل - ازياء - موضه - ماركات

ازياء واكسسورات

مكياج وشعر

ديكور - أثاث - غرف نوم - مطابخ - حمامات

صحة - طب بديل - تغذية - أعشاب - رجيم - اطفالنا

الطبخ والمأكولات

الفن والفنانين

الفيديو والافلام

الصوتيات و المرئيات و الفضائيات

الأغاني و الفيديو كليب

مقاطع الاغاني , اغاني

صرقعة و تنكيت وضحك

العاب الكمبيوتر اثارة

مسنجر - برامج ماسنجر - توبيكات

توبيكات

صور - كاريكاتير - مناظر

الرياضة والرياضيين

السيارات Motorcycles - Cars - سيارات - دراجات

سياحة وسفر

تطوير المواقع ، هاكات و سكربتات

الكمبيوتر و الإنترنت

بلوتوث - مقاطع جوال - فيديو الجوال

تصاميم و جرافكس - فلاش - سويتش - دروس

اسماء ومعاني

العاب فلاش

مكتبة البرامج

ماسنجرات

حكم وامثال

اسلاميات

المركز الاخباري

صحف ومجلات

تداول الاسهم

دليل المواقع

قصائد مسموعة