عندما تزورني الملائكة في المنام في الأيام القادمة، لن أراها ترتدي ملابس بيضاء.. لأنني أعرف أن الملائكة لن تدخل سجن النساء مثلي، ولن ترتدي فيها ملابس بيضاء أصبحت أكرهها، فهناك لا وجود لأي لون آخر.
المسافة بين الباب العمومي لسجن النساء في القناطر والباب التالي الذي يؤدي إلي عنابر السجن تشبه تماماً المسافة بين الشتاء والصيف.. يطل الباب العمومي علي فرع النيل أما باب العنابر فيطل علي مباني وزنازين قاتمة بلا ألوان.. هناك تتغير كل ألوان الحياة وتتبدل لتعطي دلالات أكثر حدة.
المسافة بين الباب العمومي وباب العنابر لا يمكن تقديرها بالكيلو مترات أو بالدقائق، فهي قد تمر في ثوان أو في سنوات، حسب نوع الرحلة.. إذا كانت رحلة دخول فهي بالتأكيد أصعب لحظات قد يمر بها إنسان، فالمسافة بين البابين هي آخر لحظات تمتلكها العين لتسجيل صور الشوارع والأرصفة والألوان ووجوه المارة.. وإذا كانت الرحلة بين البابين رحلة خروج فقد تمر في لحظة واحدة خاصة إذا قورنت مع الليالي الطويلة التي حفظ فيها السجين عدد الشقوق في الزنزانة ولون السقف وأشكال العيون.. في رحلة الخروج من سجن النساء تنفض السجينة غبار الأيام التي قضتها خلف الأسوار.
فور أن تغلق البوابة العمومية خلف السجينات المستجدات تبدأ الرحلة داخل سجن النساء، أول ما يستقبل السجينات لافتة نحاسية ترحب بالزوار عليها اسم «سجن القناطر للنساء»، أمامها تقف السجينات المستجدات في انتظار انتهاء «العسكري» من عد «الوارد» الجديد، بعدها يبدأ مأمور السجن في مراجعة كشوف السجينات ثم يلقي نظرة فاحصة علي القادمات من العالم الخارجي، ويقرأ عليهن لوائح السجن.. في هذا الوقت كانت عيون السجينات شاردة تماماً تبحث في المكان الجديد عن أشياء تعرفها أو ملامح تتودد إليها بحثاً عن لحظة أمان في عالم المجهول القادم، الآن حان وقت تغيير الملابس، ولا يعني تغيير الملابس فقط استبدال الملونة بأخري بيضاء باهتة، لكنه تغيير لكل عادات وطبائع المقيمين خارج السجن، أعتقد أن الملابس البيضاء التي ارتديتها في اليوم الأول بسجن النساء لن تجعلني اتخيل الملائكة باللون الأبيض بعد اليوم، فالإنسان يضطر لارتداء الملابس البيضاء غالباً في حالتين: السجن أو المرض.
وبعد انتهاء السجينات من تغيير الملابس تبدأ مرحلة التفتيش الذاتي للسجينات قبل دخول العنابر، وهو إجراء يستهدف كسر شعور السجينات الجدد بالخصوصية، كانت أول مرة اتعرض فيها للتفتيش الذاتي، وهو ما جعلني أشعر أن أجساد السجينات مجرد حقائب ملابس من حق أي شخص العبث والتفتيش فيها، والمثير أن من يقومون بهذا الإجراء يمارسون عملهم وابتسامة عريضة علي وجوههم.
قبل أن يبدأ التفتيش لم أكن أتصور أن يتم بهذه الطريقة الصادمة، فهو في حقيقته ليس تفتيشا ذاتيا عاديا لكن عملية تحرش جنسي بكل ما تحمله الكلمة من معني، فالتفتيش الذاتي يمكن أن يتم حالياً بأجهزة تفتيش حديثة تستطيع حماية خصوصية وكرامة الإنسان، لكن يبدو أن هذا ما لا ترغب فيه حكومتنا الذكية.
وعند انتهاء حفلة التحرش الجنسي أو التفتيش الذاتي كما يسمونها، يتم توزيع السجينات علي العنابر المختلفة حسب نوع جرائمهن، وتتولي عملية التوزيع السجانات بصحبة بعض السجينات اللاتي يطلق عليهن «النوباتجية»، والحديث عن «النوباتجية» في سجن النساء مليء بالتفاصيل والحكايات المدهشة والمفزعة في الوقت نفسه!! فـ«النوباتجية» هن حلقة الوصل بين السجينات وإدارة السجن، وتعتمد عليهن الإدارة في تنفيذ مهام يصعب علي السجانات والإدارة نفسها أن تنفذها، فالنوباتجية يتولين مسئولية توزيع السجينات وتسكينهن في العنابر، فـ«الوارد» الجديد لا يستطيع الحصول علي سرير إلا بعد سنوات من نومه علي الأرض وبعد مفاوضات طويلة مع «النوباتجية»، وبعد أن تنتهي كل إجراءات التفتيش ويتم تسليم «الوارد» الجديد للنوباتجية تدخل السجينات في العالم الجديد.. فأثناء المرور في طرقات السجن يلقي الزائر الجديد نظرته الأولي، وهي خليط شديد التعقيد من الانقباض والخوف والرهبة، فعندما تنظر إلي النوافذ تكتشف أنها الصلة الوحيدة مع العالم الخارجي، فعن طريق النوافذ تنسج السجينات خيالاتها، وتحتفظ نوافذ سجن النساء بالشكل نفسه الذي شاهدناه في فيلم «الحب في الزنزانة»، حيث كانت تقف سعاد حسني لتلوح بمنديلها الأخضر لحبيبها في سجن الرجال، هناك أخبرتني بعض السجينات بأن سعاد حسني جاءت إلي السجون لتمثل دورها من الشباك الحقيقي الذي كان موجوداً في عنبر 6 جرائم نفس أو كما تطلق عليه السجينات «عنبر القتلة»، ولكن إدارة السجن قامت بتنظيف العنابر وتبيض الحوائط والسرائر ليظهر في فيلم آخر «سجن سوبر لوكس»!
وعندما بحثنا عن الشباك الذي وقفت أمامه سعاد حسني أكدت لنا السجينات أن إدارة السجن أغلقته بالطوب، ربما خوفاً من تكرار قصة الفيلم في الواقع!
أثناء دخولي وزميلاتي إلي ساحة سجن القناطر ونظري لنوافذ العنابر لاحظت أن السجينات يتسابقن لمراقبة السجينات الجدد.. وشاهدت ملابس قديمة معلقة، لحظتها لم اتخيل أنني استطيع الحياة في هذا المكان، والغريب أنني عندما دخلت العنبر رقم 6، أصبح المكان المفضل لجلوسي مع صديقتي أسماء أمام هذه النافذة ولم أعد أشعر بالغربة أو الخوف.. تنتهي الساعات الأولي للسجينات الجدد بعد توزيعهن علي العنابر حسب نوع الجرائم التي ارتكبنها وهناك عنبر لجرائم النفس وآخر الآداب والسرقة - الهنجرانية، والأموال العامة وعنبر التحقيق بالإضافة إلي عينة «الضعفاء» وهو عنبر كبار السن والحوامل، وهناك عنبر الإعدام.
وفور إغلاق الباب الحديدي علي السجينات يصبحن في مواجهة مباشرة مع السجن وجهاً لوجه.. وتبدأ معركة تكسير عظام حقيقية، ومن المتعارف عليه داخل أي سجن أن النوباتجية لديها إحصائية كاملة للأماكن الشاغرة داخل العنبر، وهو ما يمكنها من تسكين أي سجينات جدد وفقاً للقواعد المتعارف عليها داخل السجون.. لكن سجن القناطر حالة خاصة لأنه السجن المركزي للنساء علي مستوي الجمهورية، ويضم أكبر عدد من السجينات، وهو ما يجعله في حالة تكدس دائمة، فالسجينات ينمن في الطرقات وفي المراحيض وهذا ما يطلق عليه داخل السجن «نمرة»، فإذا كانت السجينة فقيرة فإنها تحصل علي «نمرة» وهي تقدر بأربع أو خمس بلاطات، إما إذا كانت من علية القوم فيمكنها تجاوز أعراف السجن وقوانينه بشراء «باكية» وهو الاسم الذي يطلق علي السرير ذي الطوابق الثلاثة، وفي الغالب تستعمل السجينة سريرا واحدا وتضع أغراضها في الباقي!!
مازالت صورة العنبر عند دخولي لأول مرة محفورة في ذهني، فهو ممر طويل به عدد ضخم من «السراير» تطل منها رءوس بشرية في دهشة وانتظار لحدث ما، وكانت العيون تنظر للضيوف الجدد في ترقب وحذر، ويكون السؤال الأول المطروح: هل أنت معنا أم مع الإدارة؟! وبعدها تبدأ المعركة وتحدث غالباً داخل السجن حول «بلاطة» أو رغيف من الخبز أو علبة سجائر باعتبارها العملة الأساسية التي يتداولها السجناء كبديل للنقود، فبدلا من أن تقول هذا الشيء بخمسة جنيهات، تقول هذا الشيء بعلبتي سجائر ولا يمنع هذا من تداول النقود داخل السجن وغالبا تحت سمع الإدارة خاصة بين السجناء الكبار.
تنتقل المعلومات والأخبار داخل السجن بسرعة مدهشة، فهي تنتقل في شكل هرمي من إدارة السجن إلي السجانات ثم النوباتجية وأخيرا السجينات، فقبل وصول دفعة جديدة من السجينات يكون السجن قد تهيأ تماما لاستقبالهن، فالإدارة تبلغ النوباتجية والسجينات حول الأماكن.. وفي إحدي المرات اشتعل الصراع عندما أصرت النوباتجية علي نزع البلاطات من بعض السجينات بالقوة، وكشفت هذه المعركة أسرار العلاقة الخفية بين النوباتجية وسجينات الأموال العامة.
خلال يومين فقط داخل سجن النساء نجحت في التعرف علي الملامح الأساسية له، ويتميز التخطيط الجغرافي للسجن بالعشوائية، ففي المدخل توجد المكاتب الإدارية لموظفي مصلحة السجون وبجانبها توجد مكاتب المأمور ونائبه ورئيس المباحث وضابط التنفيذ العقابي وحجرتا الأمانات والتفتيش، والمثير أن مساحة حجرة الأمانات لا تزيد علي أربعة أمتار فقط رغم أنها تضم كل ما يخص 3 آلاف سجينة، وبعض هذه الأمانات يصل عمرها إلي عشرين عاما.. وعلي يمين المدخل توجد ساحة الزيارة وفي المنتصف توجد ساحة السجن الواسعة التي جري تجديدها مؤخرا بتركيب بلاط «مزايكو» ويحيط بها سور عال به بوابتان تقف علي كل بوابة سجانة ولا يسمح للسجينات بدخول ساحة السجن إلا في أوقات الزيارة أو نقل الطعام الذي يدخل سجن النساء عن طريق «الطفطف» قادما من سجن الرجال.. وبعد العبور من بوابة ساحة السجن ندخل إلي عدد من العنابر الموجودة في مبني قديم يبدو متهالكا ويضم ثلاثة عنابر هي أرقام 5 و6 و7 وهو مخصص للصوص الصغار أو «الهنجرانيات» والمبني من أقدم المباني داخل سجن النساء لذلك يحتوي علي عنابر كبيرة المساحة وذات أسقف مرتفعة وداخل كل عنبر يوجد مرحاض كبير يضم عشرة مراحيض صغيرة جدا تخدم 250 سجينة في العنبر الواحد، والغريب أن آخر تجديد لمراحيض سجن النساء حدث منذ عشرين عاما وفي مواجهة مبني العنابر القديم توجد غرفة صغيرة تفتح أبوابها بعد الساعة الثالثة ظهرا فقط، وهو وقت ما بعد انتهاء الزيارة، والغرفة هي «الكنتين» أو منفذ البيع الوحيد داخل السجن ولا يتعامل مع السجينات سوي بعملة واحدة هي الكوبونات المختومة من مصلحة السجون، وتكتب عليها القيمة الشرائية التي تبدأ من 25 قرشا إلي 20 جنيها.. وبعد المرور علي الكنتين توجد مستشفي السجن، والذي تعتبره السجينات مقبرة، وتعتقد معظم السجينات أن الموت علي الفراش داخل العنبر أفضل من دخول المستشفي ورغم ذلك تمنع السجينات من دخول المستشفي في أحيان كثيرة، ولا يسمح لهن بالدخول إلا بعد وصلة من التذلل والاستعطاف للسجانات.
ويتكون مبني المستشفي من طابقين الأول به عدد من العيادات المكتوب علي أبوابها أسماء التخصصات المختلفة وهو ما يعطي الانطباع الأول بأن المستشفي يحتوي علي أطباء من جميع التخصصات، لكن سرعان ما يتبدد هذا الوهم أمام الحقائق المزرية، فالمستشفي الذي يخدم 3000 سجينة ليس أكثر من مستوصف طبي صغير ولا يوجد به سوي طبيبين أحدهما هو مديرة المستشفي والغريب أن المستشفي لا توجد به غرفة رعاية مركزة ولا غرفة عمليات.
أما صيدلية المستشفي فلا يوجد بها سوي أنواع محدودة من المسكنات والمراهم والكبسولات وفي الغالب تصرف هذه الأدوية لكل الأمراض مهما كانت متنوعة، فالمريضة تكشف بعد عناء طويل يمتد إلي ساعات طويلة قبل أن تحصل علي قرصين من المسكنات يمكن أن تكون صلاحيتهما قد انتهت.
وتعرف معظم السجينات أن المستشفي تحول في الأعوام الأخيرة إلي فندق لاستضافة لصوص البنوك والمتهمات في قضايا الأموال العامة والكل هناك يعرف كيف كانت تعيش مني الشافعي داخل سجن القناطر ورندا الشامي المتهمة بسرطنة المصريين وروت لنا بعض السجينات قصص زميلات متن بسبب عدم وجود أطباء متخصصين داخل المستشفي أو بسبب دواء خاطئ.
وبجوار غرفة الاعدام توجد غرفة التأديب، وهي الغرفة التي تتوعد بها الإدارة كل السجينات وحدثتنا بعض السجينات عن أهوال غرفة التأديب فهي غرفة ضيقة جدا تتسع لأن يجلس فيها شخص واحد ولا يوجد بها سرير أو وسادة فالسجينة تنام علي الأرض في الصيف أو الشتاء وعندما توضع السجينة في غرفة التأديب لا يدخل لها من الطعام سوي الجراية وهذا اسم يطلق علي مستحقات السجينة من الخبز اليومي فقط، وتتراوح فترة العقوبة داخل غرفة التأديب من يوم إلي ثلاثة أيام وأثناء وجودي داخل السجن حاولت فتاة في العقد الثاني من عمرها الانتحار، ونجحت إحدي السجينات في انقاذها بوقف النزيف الذي سال من يديها عقب محاولتها قطع شرايين يدها، وفوجئنا برد فعل الإدارة تجاه هذه الحادثة وقررت معاقبة الفتاة بعد محاولتها الانتحار بوضعها في غرفة التأديب لمدة ثلاثة أيام دون طعام.
المدهش أن سجن القناطر كان يحتوي علي غرفة واحدة يطلق عليها العنبر السياسي، ظلت تعيش فيها سجينة واحدة لمدة 15 عاما وكانت تنتمي إلي الجماعات الإسلامية، وفور وصولي إلي السجن أخبرتني إحدي السجينات بأن الإدارة غيرت اسم الغرفة من «السياسي» إلي «الإيراد»!!
يمكن القول إن مجتمع السجن هو نموذج «فاقع» من المجتمع الأصلي، فكل شيء يبدو مبالغا فيه والفوارق بين عنابر الجنايات وعنابر الأموال العامة تبدو كبيرة وواضحة ويبدو الظلم الواقع علي السجينات هو والآخر كبيرا ولا يستطيع أن يتحمله أي شخص فالفساد داخل السجن يظهر ساطعا في كل مكان داخل السجن ورغم ذلك يتعايش معه الجميع سواء الإدارة أو الحرس أو النوباتجية أو السجينات.
يتكون عالم السجن بشكل أساسي من طبقتين، الأولي هي طبقة السادة والثانية هي طبقة العبيد وفيما بينهما حالات فردية تنتمي لعائلات ميسورة أو تجار المخدرات وطبقة السادة تتكون من سجينات عنبر الأموال العامة بجانب بعض المتهمات في قضايا فساد كبري والسجينات اللائي ينتمين لهذا النوع من الجرائم يتعاملين داخل السجن وكأنهن لايزالن في بيوتهن الفخمة فغير مسموح لأي سجينة من طبقة العبيد التحدث إليهن أو الدخول إلي عالمهن الخاص.
وبعيدا عن علاقة «هوانم سجن القناطر» بالإدارة، فإن الواقع يقول إن الهوانم لهن سلطة نافذة وحقيقية داخل السجن، ومصدر هذا النفوذ هو المال فإدارة السجن تبدو عاجزة عن توفير مطالب السجينات وبالتالي تحتفظ بالجانب الأمني والشكلي فقط، أما الخدمات مثل الطعام والمأوي فتلعب الهوانم فيه دورا تقول الإدارة إنه «خيري» لكنه في الواقع نظير خدمات جليلة تقوم بها السجينات لهن مثل التنظيف وغسيل الملابس وكيها وشراء الطعام وإعداده، وكل ذلك يتم مقابل خرطوشة سجائر.
أما الحالات التي كانت مثارا للاستفزاز فهي عديدة ومنها النفود الذي كانت تتمتع به مني الشافعي التي خرجت منذ عدة أيام بعد تسوية مديونيتها مع البنوك وقبل خروجها كانت مني الشافعي تعيش في امبراطورية خاصة، فمنذ أن دخلت السجن قبل عشر سنوات وهي تعيش في المستشفي وكانت امبراطوريتها داخل السجن تضم ما لا يقل عن 20 سجينة تحت الطلب وبعضهن يسمح له بالنوم خارج العنبر لمرافقة الهانم أثناء الليل، رغم أن القواعد تمنع أي سجينة من الوجود خارج عنبرها بعد الساعة الرابعة عصرا. ولأن سجينات الأموال العامة لهن كلمة نافذة لدي الإدارة كان يسمح لهن باختيار الأماكن التي يعشن فيها «وكل شيء بحسابه»، بل ويمكنهن العيش خارج العنابر المخصصة لهن، ففي عنبر 7 المخصص للصوص الصغار، توجد غرفة صغيرة انتزعتها بعض السيدات اللائي ينتمين إلي عنبر الأموال العامة، وحولنها إلي «جناح خاص» لا يدخله سوي طبقة السادة وطاقم السجينات المخصصات للخدمة.
وتشكل طبقة الجواري داخل سجن القناطر القطاع العريض من السجينات وهن يعملن لمدة ثماني ساعات يوميا لايجاد الفتات، فالبعض يعمل في المغسلة وهي عبارة عن مكان واسع تقوم بعض السجينات بجمع الملابس فيه من العنابر المختلفة لغسلها مقابل عدد من علب السجائر. والبعض يعمل في المطبخ وتوزيع «التعيين» الذي يتكون من علبة جبنة «فيتا» وقطعتين من اللحم ونصف ثمرة كنتلوب في الأسبوع الواحد، أما الشيء الوحيد الذي تحصل عليه السجينات بشكل يومي فهو «الجراية» وهي ثلاثة أرغفة من الخبز!! أما الشيء الأكثر إذلالا فهو المقابل الذي تحصل عليه السجينة مقابل هذا العمل الشاق، فالمبلغ لا يتجاوز 40 جنيها في الشهر وفي أحيان كثيرة يتأخر المرتب لعدة أشهر!!
ولمواجهة قسوة الحياة داخل السجن وضعت السجينات نظاما اجتماعيا يشبه النظام الموجود خارج السجن حيث انتشرت ظاهرة التبني لكل سيدة بالغة ابنة شابة تساعدها يتقاسمان الطعام والاقامة وحر الصيف وبرودة الشتاء، وتسود في السجن حالة أمومة طاغية، فلا تستطيع الفتاة مناداة أي سيدة بالغة إلا وقالت كلمة «أما» قبل اسمها لدرجة أننا في بداية أيام السجن اعتقدنا أن عددا من السجينات تم حبسهن مع بناتهن وبعدها عرفنا أنها كلمة ذائعة الصيت وتقال للتعبير عن الامتنان والاحترام بين السجينات وبعضهن.
وهناك حالة من التعايش المثيرة اعتاد عليها الجميع في سجن النساء، فعندما يتوفي قريب لإحدي السجينات يعلن العنبر كله الحداد ويغلق التليفزيون وتتوقف المداعبات داخل السجن احتراما لحزن الزميلة وتتم اقامة عزاء صغير تتلقي فيه السجينة العزاء علي صوت «القرآن».
وعندما تصل أنباء سعيدة من الخارج لإحدي السجينات مثل زواج ابنها أو ابنتها يشارك العنبر كله في إحياء هذه الليلة وينتشر الخبر منذ الصباح عن مكان الفرح، ولكل عنبر عدد من المغنيات المسئولات عن إحياء هذه الليالي.
الأكثر دهشة في أفراح السجينات هو نوع الأغاني التي ينشدها العنبر كله، فهناك عدد من الأغاني لم نسمعه في الخارج وكأن لكل مجتمع أغانيه الخاصة وإنتاجه من الكلمات والألحان إلي الحد الذي وصل لإنتاج أغنية تمتدح كل عنابر السجن مع إبراز مظاهر «الجدعنة» التي يتحلي بها كل عنبر أو كل فئة.
وعند تنفيذ قرار الافراج لإحدي السجينات يضاف إلي برنامج الحفل أغنية السجن الشهيرة والتي يطلق عليها «العنبرة» نسبة إلي العنابر التي تعيش فيها السجينات
المسافة بين الباب العمومي لسجن النساء في القناطر والباب التالي الذي يؤدي إلي عنابر السجن تشبه تماماً المسافة بين الشتاء والصيف.. يطل الباب العمومي علي فرع النيل أما باب العنابر فيطل علي مباني وزنازين قاتمة بلا ألوان.. هناك تتغير كل ألوان الحياة وتتبدل لتعطي دلالات أكثر حدة.
المسافة بين الباب العمومي وباب العنابر لا يمكن تقديرها بالكيلو مترات أو بالدقائق، فهي قد تمر في ثوان أو في سنوات، حسب نوع الرحلة.. إذا كانت رحلة دخول فهي بالتأكيد أصعب لحظات قد يمر بها إنسان، فالمسافة بين البابين هي آخر لحظات تمتلكها العين لتسجيل صور الشوارع والأرصفة والألوان ووجوه المارة.. وإذا كانت الرحلة بين البابين رحلة خروج فقد تمر في لحظة واحدة خاصة إذا قورنت مع الليالي الطويلة التي حفظ فيها السجين عدد الشقوق في الزنزانة ولون السقف وأشكال العيون.. في رحلة الخروج من سجن النساء تنفض السجينة غبار الأيام التي قضتها خلف الأسوار.
فور أن تغلق البوابة العمومية خلف السجينات المستجدات تبدأ الرحلة داخل سجن النساء، أول ما يستقبل السجينات لافتة نحاسية ترحب بالزوار عليها اسم «سجن القناطر للنساء»، أمامها تقف السجينات المستجدات في انتظار انتهاء «العسكري» من عد «الوارد» الجديد، بعدها يبدأ مأمور السجن في مراجعة كشوف السجينات ثم يلقي نظرة فاحصة علي القادمات من العالم الخارجي، ويقرأ عليهن لوائح السجن.. في هذا الوقت كانت عيون السجينات شاردة تماماً تبحث في المكان الجديد عن أشياء تعرفها أو ملامح تتودد إليها بحثاً عن لحظة أمان في عالم المجهول القادم، الآن حان وقت تغيير الملابس، ولا يعني تغيير الملابس فقط استبدال الملونة بأخري بيضاء باهتة، لكنه تغيير لكل عادات وطبائع المقيمين خارج السجن، أعتقد أن الملابس البيضاء التي ارتديتها في اليوم الأول بسجن النساء لن تجعلني اتخيل الملائكة باللون الأبيض بعد اليوم، فالإنسان يضطر لارتداء الملابس البيضاء غالباً في حالتين: السجن أو المرض.
وبعد انتهاء السجينات من تغيير الملابس تبدأ مرحلة التفتيش الذاتي للسجينات قبل دخول العنابر، وهو إجراء يستهدف كسر شعور السجينات الجدد بالخصوصية، كانت أول مرة اتعرض فيها للتفتيش الذاتي، وهو ما جعلني أشعر أن أجساد السجينات مجرد حقائب ملابس من حق أي شخص العبث والتفتيش فيها، والمثير أن من يقومون بهذا الإجراء يمارسون عملهم وابتسامة عريضة علي وجوههم.
قبل أن يبدأ التفتيش لم أكن أتصور أن يتم بهذه الطريقة الصادمة، فهو في حقيقته ليس تفتيشا ذاتيا عاديا لكن عملية تحرش جنسي بكل ما تحمله الكلمة من معني، فالتفتيش الذاتي يمكن أن يتم حالياً بأجهزة تفتيش حديثة تستطيع حماية خصوصية وكرامة الإنسان، لكن يبدو أن هذا ما لا ترغب فيه حكومتنا الذكية.
وعند انتهاء حفلة التحرش الجنسي أو التفتيش الذاتي كما يسمونها، يتم توزيع السجينات علي العنابر المختلفة حسب نوع جرائمهن، وتتولي عملية التوزيع السجانات بصحبة بعض السجينات اللاتي يطلق عليهن «النوباتجية»، والحديث عن «النوباتجية» في سجن النساء مليء بالتفاصيل والحكايات المدهشة والمفزعة في الوقت نفسه!! فـ«النوباتجية» هن حلقة الوصل بين السجينات وإدارة السجن، وتعتمد عليهن الإدارة في تنفيذ مهام يصعب علي السجانات والإدارة نفسها أن تنفذها، فالنوباتجية يتولين مسئولية توزيع السجينات وتسكينهن في العنابر، فـ«الوارد» الجديد لا يستطيع الحصول علي سرير إلا بعد سنوات من نومه علي الأرض وبعد مفاوضات طويلة مع «النوباتجية»، وبعد أن تنتهي كل إجراءات التفتيش ويتم تسليم «الوارد» الجديد للنوباتجية تدخل السجينات في العالم الجديد.. فأثناء المرور في طرقات السجن يلقي الزائر الجديد نظرته الأولي، وهي خليط شديد التعقيد من الانقباض والخوف والرهبة، فعندما تنظر إلي النوافذ تكتشف أنها الصلة الوحيدة مع العالم الخارجي، فعن طريق النوافذ تنسج السجينات خيالاتها، وتحتفظ نوافذ سجن النساء بالشكل نفسه الذي شاهدناه في فيلم «الحب في الزنزانة»، حيث كانت تقف سعاد حسني لتلوح بمنديلها الأخضر لحبيبها في سجن الرجال، هناك أخبرتني بعض السجينات بأن سعاد حسني جاءت إلي السجون لتمثل دورها من الشباك الحقيقي الذي كان موجوداً في عنبر 6 جرائم نفس أو كما تطلق عليه السجينات «عنبر القتلة»، ولكن إدارة السجن قامت بتنظيف العنابر وتبيض الحوائط والسرائر ليظهر في فيلم آخر «سجن سوبر لوكس»!
وعندما بحثنا عن الشباك الذي وقفت أمامه سعاد حسني أكدت لنا السجينات أن إدارة السجن أغلقته بالطوب، ربما خوفاً من تكرار قصة الفيلم في الواقع!
أثناء دخولي وزميلاتي إلي ساحة سجن القناطر ونظري لنوافذ العنابر لاحظت أن السجينات يتسابقن لمراقبة السجينات الجدد.. وشاهدت ملابس قديمة معلقة، لحظتها لم اتخيل أنني استطيع الحياة في هذا المكان، والغريب أنني عندما دخلت العنبر رقم 6، أصبح المكان المفضل لجلوسي مع صديقتي أسماء أمام هذه النافذة ولم أعد أشعر بالغربة أو الخوف.. تنتهي الساعات الأولي للسجينات الجدد بعد توزيعهن علي العنابر حسب نوع الجرائم التي ارتكبنها وهناك عنبر لجرائم النفس وآخر الآداب والسرقة - الهنجرانية، والأموال العامة وعنبر التحقيق بالإضافة إلي عينة «الضعفاء» وهو عنبر كبار السن والحوامل، وهناك عنبر الإعدام.
وفور إغلاق الباب الحديدي علي السجينات يصبحن في مواجهة مباشرة مع السجن وجهاً لوجه.. وتبدأ معركة تكسير عظام حقيقية، ومن المتعارف عليه داخل أي سجن أن النوباتجية لديها إحصائية كاملة للأماكن الشاغرة داخل العنبر، وهو ما يمكنها من تسكين أي سجينات جدد وفقاً للقواعد المتعارف عليها داخل السجون.. لكن سجن القناطر حالة خاصة لأنه السجن المركزي للنساء علي مستوي الجمهورية، ويضم أكبر عدد من السجينات، وهو ما يجعله في حالة تكدس دائمة، فالسجينات ينمن في الطرقات وفي المراحيض وهذا ما يطلق عليه داخل السجن «نمرة»، فإذا كانت السجينة فقيرة فإنها تحصل علي «نمرة» وهي تقدر بأربع أو خمس بلاطات، إما إذا كانت من علية القوم فيمكنها تجاوز أعراف السجن وقوانينه بشراء «باكية» وهو الاسم الذي يطلق علي السرير ذي الطوابق الثلاثة، وفي الغالب تستعمل السجينة سريرا واحدا وتضع أغراضها في الباقي!!
مازالت صورة العنبر عند دخولي لأول مرة محفورة في ذهني، فهو ممر طويل به عدد ضخم من «السراير» تطل منها رءوس بشرية في دهشة وانتظار لحدث ما، وكانت العيون تنظر للضيوف الجدد في ترقب وحذر، ويكون السؤال الأول المطروح: هل أنت معنا أم مع الإدارة؟! وبعدها تبدأ المعركة وتحدث غالباً داخل السجن حول «بلاطة» أو رغيف من الخبز أو علبة سجائر باعتبارها العملة الأساسية التي يتداولها السجناء كبديل للنقود، فبدلا من أن تقول هذا الشيء بخمسة جنيهات، تقول هذا الشيء بعلبتي سجائر ولا يمنع هذا من تداول النقود داخل السجن وغالبا تحت سمع الإدارة خاصة بين السجناء الكبار.
تنتقل المعلومات والأخبار داخل السجن بسرعة مدهشة، فهي تنتقل في شكل هرمي من إدارة السجن إلي السجانات ثم النوباتجية وأخيرا السجينات، فقبل وصول دفعة جديدة من السجينات يكون السجن قد تهيأ تماما لاستقبالهن، فالإدارة تبلغ النوباتجية والسجينات حول الأماكن.. وفي إحدي المرات اشتعل الصراع عندما أصرت النوباتجية علي نزع البلاطات من بعض السجينات بالقوة، وكشفت هذه المعركة أسرار العلاقة الخفية بين النوباتجية وسجينات الأموال العامة.
خلال يومين فقط داخل سجن النساء نجحت في التعرف علي الملامح الأساسية له، ويتميز التخطيط الجغرافي للسجن بالعشوائية، ففي المدخل توجد المكاتب الإدارية لموظفي مصلحة السجون وبجانبها توجد مكاتب المأمور ونائبه ورئيس المباحث وضابط التنفيذ العقابي وحجرتا الأمانات والتفتيش، والمثير أن مساحة حجرة الأمانات لا تزيد علي أربعة أمتار فقط رغم أنها تضم كل ما يخص 3 آلاف سجينة، وبعض هذه الأمانات يصل عمرها إلي عشرين عاما.. وعلي يمين المدخل توجد ساحة الزيارة وفي المنتصف توجد ساحة السجن الواسعة التي جري تجديدها مؤخرا بتركيب بلاط «مزايكو» ويحيط بها سور عال به بوابتان تقف علي كل بوابة سجانة ولا يسمح للسجينات بدخول ساحة السجن إلا في أوقات الزيارة أو نقل الطعام الذي يدخل سجن النساء عن طريق «الطفطف» قادما من سجن الرجال.. وبعد العبور من بوابة ساحة السجن ندخل إلي عدد من العنابر الموجودة في مبني قديم يبدو متهالكا ويضم ثلاثة عنابر هي أرقام 5 و6 و7 وهو مخصص للصوص الصغار أو «الهنجرانيات» والمبني من أقدم المباني داخل سجن النساء لذلك يحتوي علي عنابر كبيرة المساحة وذات أسقف مرتفعة وداخل كل عنبر يوجد مرحاض كبير يضم عشرة مراحيض صغيرة جدا تخدم 250 سجينة في العنبر الواحد، والغريب أن آخر تجديد لمراحيض سجن النساء حدث منذ عشرين عاما وفي مواجهة مبني العنابر القديم توجد غرفة صغيرة تفتح أبوابها بعد الساعة الثالثة ظهرا فقط، وهو وقت ما بعد انتهاء الزيارة، والغرفة هي «الكنتين» أو منفذ البيع الوحيد داخل السجن ولا يتعامل مع السجينات سوي بعملة واحدة هي الكوبونات المختومة من مصلحة السجون، وتكتب عليها القيمة الشرائية التي تبدأ من 25 قرشا إلي 20 جنيها.. وبعد المرور علي الكنتين توجد مستشفي السجن، والذي تعتبره السجينات مقبرة، وتعتقد معظم السجينات أن الموت علي الفراش داخل العنبر أفضل من دخول المستشفي ورغم ذلك تمنع السجينات من دخول المستشفي في أحيان كثيرة، ولا يسمح لهن بالدخول إلا بعد وصلة من التذلل والاستعطاف للسجانات.
ويتكون مبني المستشفي من طابقين الأول به عدد من العيادات المكتوب علي أبوابها أسماء التخصصات المختلفة وهو ما يعطي الانطباع الأول بأن المستشفي يحتوي علي أطباء من جميع التخصصات، لكن سرعان ما يتبدد هذا الوهم أمام الحقائق المزرية، فالمستشفي الذي يخدم 3000 سجينة ليس أكثر من مستوصف طبي صغير ولا يوجد به سوي طبيبين أحدهما هو مديرة المستشفي والغريب أن المستشفي لا توجد به غرفة رعاية مركزة ولا غرفة عمليات.
أما صيدلية المستشفي فلا يوجد بها سوي أنواع محدودة من المسكنات والمراهم والكبسولات وفي الغالب تصرف هذه الأدوية لكل الأمراض مهما كانت متنوعة، فالمريضة تكشف بعد عناء طويل يمتد إلي ساعات طويلة قبل أن تحصل علي قرصين من المسكنات يمكن أن تكون صلاحيتهما قد انتهت.
وتعرف معظم السجينات أن المستشفي تحول في الأعوام الأخيرة إلي فندق لاستضافة لصوص البنوك والمتهمات في قضايا الأموال العامة والكل هناك يعرف كيف كانت تعيش مني الشافعي داخل سجن القناطر ورندا الشامي المتهمة بسرطنة المصريين وروت لنا بعض السجينات قصص زميلات متن بسبب عدم وجود أطباء متخصصين داخل المستشفي أو بسبب دواء خاطئ.
وبجوار غرفة الاعدام توجد غرفة التأديب، وهي الغرفة التي تتوعد بها الإدارة كل السجينات وحدثتنا بعض السجينات عن أهوال غرفة التأديب فهي غرفة ضيقة جدا تتسع لأن يجلس فيها شخص واحد ولا يوجد بها سرير أو وسادة فالسجينة تنام علي الأرض في الصيف أو الشتاء وعندما توضع السجينة في غرفة التأديب لا يدخل لها من الطعام سوي الجراية وهذا اسم يطلق علي مستحقات السجينة من الخبز اليومي فقط، وتتراوح فترة العقوبة داخل غرفة التأديب من يوم إلي ثلاثة أيام وأثناء وجودي داخل السجن حاولت فتاة في العقد الثاني من عمرها الانتحار، ونجحت إحدي السجينات في انقاذها بوقف النزيف الذي سال من يديها عقب محاولتها قطع شرايين يدها، وفوجئنا برد فعل الإدارة تجاه هذه الحادثة وقررت معاقبة الفتاة بعد محاولتها الانتحار بوضعها في غرفة التأديب لمدة ثلاثة أيام دون طعام.
المدهش أن سجن القناطر كان يحتوي علي غرفة واحدة يطلق عليها العنبر السياسي، ظلت تعيش فيها سجينة واحدة لمدة 15 عاما وكانت تنتمي إلي الجماعات الإسلامية، وفور وصولي إلي السجن أخبرتني إحدي السجينات بأن الإدارة غيرت اسم الغرفة من «السياسي» إلي «الإيراد»!!
يمكن القول إن مجتمع السجن هو نموذج «فاقع» من المجتمع الأصلي، فكل شيء يبدو مبالغا فيه والفوارق بين عنابر الجنايات وعنابر الأموال العامة تبدو كبيرة وواضحة ويبدو الظلم الواقع علي السجينات هو والآخر كبيرا ولا يستطيع أن يتحمله أي شخص فالفساد داخل السجن يظهر ساطعا في كل مكان داخل السجن ورغم ذلك يتعايش معه الجميع سواء الإدارة أو الحرس أو النوباتجية أو السجينات.
يتكون عالم السجن بشكل أساسي من طبقتين، الأولي هي طبقة السادة والثانية هي طبقة العبيد وفيما بينهما حالات فردية تنتمي لعائلات ميسورة أو تجار المخدرات وطبقة السادة تتكون من سجينات عنبر الأموال العامة بجانب بعض المتهمات في قضايا فساد كبري والسجينات اللائي ينتمين لهذا النوع من الجرائم يتعاملين داخل السجن وكأنهن لايزالن في بيوتهن الفخمة فغير مسموح لأي سجينة من طبقة العبيد التحدث إليهن أو الدخول إلي عالمهن الخاص.
وبعيدا عن علاقة «هوانم سجن القناطر» بالإدارة، فإن الواقع يقول إن الهوانم لهن سلطة نافذة وحقيقية داخل السجن، ومصدر هذا النفوذ هو المال فإدارة السجن تبدو عاجزة عن توفير مطالب السجينات وبالتالي تحتفظ بالجانب الأمني والشكلي فقط، أما الخدمات مثل الطعام والمأوي فتلعب الهوانم فيه دورا تقول الإدارة إنه «خيري» لكنه في الواقع نظير خدمات جليلة تقوم بها السجينات لهن مثل التنظيف وغسيل الملابس وكيها وشراء الطعام وإعداده، وكل ذلك يتم مقابل خرطوشة سجائر.
أما الحالات التي كانت مثارا للاستفزاز فهي عديدة ومنها النفود الذي كانت تتمتع به مني الشافعي التي خرجت منذ عدة أيام بعد تسوية مديونيتها مع البنوك وقبل خروجها كانت مني الشافعي تعيش في امبراطورية خاصة، فمنذ أن دخلت السجن قبل عشر سنوات وهي تعيش في المستشفي وكانت امبراطوريتها داخل السجن تضم ما لا يقل عن 20 سجينة تحت الطلب وبعضهن يسمح له بالنوم خارج العنبر لمرافقة الهانم أثناء الليل، رغم أن القواعد تمنع أي سجينة من الوجود خارج عنبرها بعد الساعة الرابعة عصرا. ولأن سجينات الأموال العامة لهن كلمة نافذة لدي الإدارة كان يسمح لهن باختيار الأماكن التي يعشن فيها «وكل شيء بحسابه»، بل ويمكنهن العيش خارج العنابر المخصصة لهن، ففي عنبر 7 المخصص للصوص الصغار، توجد غرفة صغيرة انتزعتها بعض السيدات اللائي ينتمين إلي عنبر الأموال العامة، وحولنها إلي «جناح خاص» لا يدخله سوي طبقة السادة وطاقم السجينات المخصصات للخدمة.
وتشكل طبقة الجواري داخل سجن القناطر القطاع العريض من السجينات وهن يعملن لمدة ثماني ساعات يوميا لايجاد الفتات، فالبعض يعمل في المغسلة وهي عبارة عن مكان واسع تقوم بعض السجينات بجمع الملابس فيه من العنابر المختلفة لغسلها مقابل عدد من علب السجائر. والبعض يعمل في المطبخ وتوزيع «التعيين» الذي يتكون من علبة جبنة «فيتا» وقطعتين من اللحم ونصف ثمرة كنتلوب في الأسبوع الواحد، أما الشيء الوحيد الذي تحصل عليه السجينات بشكل يومي فهو «الجراية» وهي ثلاثة أرغفة من الخبز!! أما الشيء الأكثر إذلالا فهو المقابل الذي تحصل عليه السجينة مقابل هذا العمل الشاق، فالمبلغ لا يتجاوز 40 جنيها في الشهر وفي أحيان كثيرة يتأخر المرتب لعدة أشهر!!
ولمواجهة قسوة الحياة داخل السجن وضعت السجينات نظاما اجتماعيا يشبه النظام الموجود خارج السجن حيث انتشرت ظاهرة التبني لكل سيدة بالغة ابنة شابة تساعدها يتقاسمان الطعام والاقامة وحر الصيف وبرودة الشتاء، وتسود في السجن حالة أمومة طاغية، فلا تستطيع الفتاة مناداة أي سيدة بالغة إلا وقالت كلمة «أما» قبل اسمها لدرجة أننا في بداية أيام السجن اعتقدنا أن عددا من السجينات تم حبسهن مع بناتهن وبعدها عرفنا أنها كلمة ذائعة الصيت وتقال للتعبير عن الامتنان والاحترام بين السجينات وبعضهن.
وهناك حالة من التعايش المثيرة اعتاد عليها الجميع في سجن النساء، فعندما يتوفي قريب لإحدي السجينات يعلن العنبر كله الحداد ويغلق التليفزيون وتتوقف المداعبات داخل السجن احتراما لحزن الزميلة وتتم اقامة عزاء صغير تتلقي فيه السجينة العزاء علي صوت «القرآن».
وعندما تصل أنباء سعيدة من الخارج لإحدي السجينات مثل زواج ابنها أو ابنتها يشارك العنبر كله في إحياء هذه الليلة وينتشر الخبر منذ الصباح عن مكان الفرح، ولكل عنبر عدد من المغنيات المسئولات عن إحياء هذه الليالي.
الأكثر دهشة في أفراح السجينات هو نوع الأغاني التي ينشدها العنبر كله، فهناك عدد من الأغاني لم نسمعه في الخارج وكأن لكل مجتمع أغانيه الخاصة وإنتاجه من الكلمات والألحان إلي الحد الذي وصل لإنتاج أغنية تمتدح كل عنابر السجن مع إبراز مظاهر «الجدعنة» التي يتحلي بها كل عنبر أو كل فئة.
وعند تنفيذ قرار الافراج لإحدي السجينات يضاف إلي برنامج الحفل أغنية السجن الشهيرة والتي يطلق عليها «العنبرة» نسبة إلي العنابر التي تعيش فيها السجينات
رشا عزب
6 comments:
عالم غريب يا رشا .. لكنه خبره عظيمة اتمنى ان لا انال شرفها
السلام عليكم
موضوع جيد
وكأن مقوله الدنيا مسرح كبير تغيرت فىداخلى لتصبح السجن مسرح كبير
ولكنه مسرح تراجديا ..
شكرا
النساء والرجال فى الهم سواء ، الأدهى ان مصلحه السجون تعتبر هذه المعاناه من بواق ولزوم العقاب
تجربه فريده واحييكى على شجاعتك
Egypt Camira
لا يبدو عالم السجن غريبا ، اذا ما قورن بما يحدث فى الخارج ، خارج السجن يا عزيزتى عالم اكثر زيفا !
ابوجلال المصرى
لا يزال هناك ما هو اغرب ، فالتجربة يكون واقعها مثل دوى القنابل ، وعلينا ان نستوعب ما يحدث ..
Mohamed A. Ghaffar
لست بشجاعة عنبر 6 او سكان سجن القناطر الذين يواجهون النظام المصرى دون ضجيج او اعلام او مكاسب سياسية
رشا عزب
انا مش عارفة اقول ايه
ومع اني بدعو لتحرر البنات من افكار غبية و مؤمنة بالمساواة لكن برضو اقولك اني اتقهرت اوي انهم يقبضوا على بنات و من زمان اول ما سمعت خبر القبض عليكي انت و اسماء مكنتش مصدقة من كتر المفاجاة
غير اني اساسا مكنتش مصدقة القبض على ناس تانية رجالة
لكن لما لقيت كمان بنات زي زيهم ضربت كف بكف و القضية كلها تعبير عن راي
يعني لا فساد مالي او اداري او قتل او غيره
مش عارفة اقلك ايه بس انتي ومعاكي اسماء فخر و شرف لكل بنت مصرية و قبل كل بنت مصرية اي انسان مصري عنده دم
تحياتي على شجاعتك و خبرتك و شخصيتك و كلك على بعضك يعني انتي و اسماء
Thanks for your
منتديات
زفات العروس
دردشة
شات
شات صوتي
مواضيع اسلامية
مواضيع عامة
Department of English Language
مكتبة مجنونات
أخبار الحوادث و الجرائم - اثارة
الترحيب و التعارف
همس القصيد
الخواطر وابداع الاقلام
Stories - قصص - قصص قصيره و الألغاز
الحياة الزوجية
عالم الرجل - ازياء - موضه - ماركات
ازياء واكسسورات
مكياج وشعر
ديكور - أثاث - غرف نوم - مطابخ - حمامات
صحة - طب بديل - تغذية - أعشاب - رجيم - اطفالنا
الطبخ والمأكولات
الفن والفنانين
الفيديو والافلام
الصوتيات و المرئيات و الفضائيات
الأغاني و الفيديو كليب
مقاطع الاغاني , اغاني
صرقعة و تنكيت وضحك
العاب الكمبيوتر اثارة
مسنجر - برامج ماسنجر - توبيكات
توبيكات
صور - كاريكاتير - مناظر
الرياضة والرياضيين
السيارات Motorcycles - Cars - سيارات - دراجات
سياحة وسفر
تطوير المواقع ، هاكات و سكربتات
الكمبيوتر و الإنترنت
بلوتوث - مقاطع جوال - فيديو الجوال
تصاميم و جرافكس - فلاش - سويتش - دروس
اسماء ومعاني
العاب فلاش
مكتبة البرامج
ماسنجرات
حكم وامثال
اسلاميات
المركز الاخباري
صحف ومجلات
تداول الاسهم
دليل المواقع
قصائد مسموعة
Post a Comment